فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1)}
التفسير:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب هذه السورة. وأكثر السلف كانوا يواظبون على قراءتها في التهجد ويتعرفون بركتها.
وعن عقبة بن عامر أنه قال: «لما نزل قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم. ولما نزل قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم» ومن الناس من تمسك بالآية في أن الاسم نفس المسمى لأن التسبيح أي التنزيه إنما يكون للمسمى لا للاسم. وأجاب المحققون عنه بأن الاسم صلة كقوله: (ثم اسم السلام عليكما). سلمنا أنه غير صلة ولكن تسبيح اسمه تنزيهه عما لا يليق معناه بذاته تعالى أو صفاته أو بأفعاله أو بأحكامه، فإن العقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة لم تنشأ إلا من هذه، ومن جملة ذلك أن يصان اسمه عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم وأن لا يسمى غيره بأسمائه الحسنى، وأن لا يطلق عليه من الأسامي إلا ما ورد به الإذن الشرعي.
قال بعض العلماء: لعل الذين نقل عنهم أن الاسم نفس المسمى أرادوا به أن الاسم الذي حدّوه بأنه ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان هو نفس مدلول هذا الحد.
قال الفراء لا فرق بين {سبح اسم ربك} وبين {سبح باسم ربك}. واعترض عليه بأن الفرق هو أن الأول معناه نزه الاسم من السوء، والثاني معناه سبح الله أي نزهه بسبب ذكر أسمائه العظام، أو متلبساً بذكره إلا أن تجعل الباء صلة في الثاني نحو {ولا تلقوا بأيديكم} [البقرة: 195] أو مضمرة في الأول مثل {واختار موسى قومه} [الأعراف: 155] أي من قومه. نعم لو زعم الفراء أن المعنيين متلازمان جاز. ومن الملأحدة من طعن في القرآن بأن يقتضي أن يكون للعالم ربان أحدهما عظيم وهو في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96] والآخر أعلى منه وهو {سبح اسم ربك الأعلى} والجواب أنه عظيم في نفسه وأعلى وأجل من جميع الممكنات، والصفة كاشفة لا مميزة ونظيره وصفه بالكبير تارة وبالأكبر أخرى. والمراد بالعظم والعلو عظم الشرف وعلو القدر فلا استدلال فيه للمشبهة. ثم شرع في بعض أوصافه الكمالية فقال: {الذي خلق فسوى} وقد مر نظيره في (الانفطار) أي خلق الإنسان فجعله منتصب القامة في أحسن تقويم، أو خلق كل حيوان بل كل ممكن فجعله مستعدّاً للكمال اللائق بحاله.
{والذي قدر} لكل مخلوق ما يصلح له فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به كما يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت وقد ألهمها الله أن تمسح العين بورق الرازيانج الرطب فتطلبه إلى أن تجده فيعود بصرها، وإلهامات البهائم والطيور مشروحة مكتوبة في كتب العجائب.
وقال الحكيم: كل مزاج فإنه مستعدّ لقوة خاصة، وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين فالتقدير عبارةعن التصرف في الأجزاء الجسمية، وتركيبها على وجه خاص لأجله يستعدّ لقبول تلك القوى، والهداية عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوّة مصدراً لفعل معين، ويحصل من مجموعها إتمام المصلحة. وقد خصه بعض المفسرين فقال مقاتل: هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها.
وقال غيره: هداه لمعيشته ومرعاهـ.
وقيل: هداه لسبيل الخير والشر.
وقال السدّي: قدر مدة مكث الجنين في الرحم ثم هداه للخروج.
وقال الفراء: قدر فهدى وأضل فاكتفى بذكر أحدهما كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] وقيل: الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان أي قدر دعاء الكل إلى الإيمان فدعاهم إليه كقوله: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: 52] وقيل: دلهم بأفعاله على توحيده وكبريائه (ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد) ومن جملة ذلك إخراج المرعى وهو الكلأ الأخضر، ثم جعله غثاء وهو مات يبس من النبات فحملته الأهوية وطيرته الرياح. والظاهر أن {أحوى} صفة لـ: {غثاء}. والحوّة السواد، فالعشب إذا يبس واستولى البرد عليه جعل يضرب إلى السواد، وقد يحتمله السيل فيلصق به أجزاء كدرة.
وقال الفراء وأبو عيبدة: الأحوى هو الأسود لشدّة خضرته وعلى هذا يكون حالاً من ضمير {المرعى} أي صيره في حال حوّته غثاء.
وقال جار الله: هو حال من {المرعى} أي أخرجه أسود من الخضرة والري فجعله غثاء وحين أمره بالتسبيح بشره وشرفه بإيتاء آية باهرة وهي أن يقرأ عليه جبرائيل ما يقرأ من الوحي الذي هو أشرف أنواع الذكر فيحفظه لا ينساه إلا ما شاء الله أن ينساه وهو أحد طريقي النسخ.
فقال مجاهد ومقاتل والكلبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن كثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى فقيل له: لا تعجل بالقراءة فإن جبرائيل مأمور بأن يكرر عليك إلى أن تحفظه نظيره {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه} [طه: 114] وعلى هذا يجوز أن يراد بالتعليم والإقراء شرح الصدر وتقوية الحفظ بحيث يبقى القرآن محفوظاً له من غير دراسة، ومع أنه أمي فيكون إعجازاً.
وعن بعضهم أن قوله: {فلا تنسى} نهي لا خبر، والألف مزيدة للفاصلة نحو {الظنونا} [الأحزاب: 10] و{السبيلا} [الأحزاب: 67] وضعف بأن الزيادة خلاف الأصل فلا يصار إليها إلا لدليل ظاهر. وأما إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية البشارة بأنا جعلناك بحيث لا تنسى، وإن جعلناه نهياً كان أمراً بالمواظبة على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة والبحث فلا يكون من البشارة في شيء. وأيضًا النسيان لا يتعلق بقدرة العبد فيلزم أن يحمل النهي عنه على الأمر بالأسباب المانعة منه وهو خلاف الظاهر، أما الاستثناء ففيه قولان: الأول أنه ليس على حقيقته، فقد روي عن الكلبي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً. وعلى هذا فالمقصود من الاستثناء إما نفي النسيان رأساً كما تستعمل القلة في معنى العدم، وإما التبرك بذكر هذه الكلمة وتعليم العباد أن لايتركوها في كل ما يخبرون عنه، وفيه أنه تعالى قادر على إنسائه إلا أنه لا ينسيه بفضله وإحسانه، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون متيقظاً مبالغاً دراسة ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً، فإن كل جزء من أجزائه يحتمل أن يكون هو المستثنى. الثاني أنه حقيقة. ثم حمله مقاتل على النسخ كما مر.
وقال الزجاج: أراد إلا أن يشاء الله فتنساه ثم تذكره بعد النسيان كما روي أنه أسقط في قراءته آية في الصلاة فحسب أبيّ أنها نسخت فسأله فقال: نسيتها.
وقيل: أريد القلة والندرة لا في الواجبات فإنه يورث الخلل في الشرع ولكن في غيرها. ثم علل حسن النسخ بقوله: {إنه يعلم الجهر وما يخفى} وإذا كان كذلك كان وضع الحكم ورفعه واقعاً بحسب مصالح المكلفين.
وقيل: أراد أنك تجهر بقراءتك مع قراءة جبرائيل مخافة النسيان والله يعلم ما في نفسك من الحرص على تحفظ الوحي، فلا تفعل فأنا أكفيك ما تخافه. ثم بشره ببشارة أخرى وهو تيسيره أي توفيقه للطريقة التي هي أيسر وهي حفظ القرآن والشريعة السهلة السمحة.
وعن ابن مسعود: هي الجنة يعني العمل المؤدي إليها. والعبارة المشهورة أن يقال: جعل الفعل الفلاني ميسراً لفلان وإنما عكس الترتيب في الآية لدقيقة هي أن الفاعل ما لم يوجد فيه قابلية لصدور الفعل عنه امتنع حصوله منه وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له» وفي الآية دلالة على أنه سبحانه فتح عليه من أبواب قبول الفيض ما لم يفتحه على غيره حتى صار يتيم أبي طالب قدوة للعالمين وهادياً للخلائق أجمعين كما قال: {فذكر إن نفعت الذكرى} وإن لم تنفع فحذفت أحدى القرينتين للعلم بها كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] وهو بناء على الإغلب فإن التذكير إنما يكون غالباً إذا كان رجاء التذكر حاصلاً كقوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً} [النور: 33] وفيه حث على الانتفاع بالذكرى كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق: قد أوضحت لك إن كنت تسمع وتقبل، ويكون مراده البعث على السماع والقبول. أو تنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الذكرى لا تنفعهم كما يقال للرجل: أدع فلاناً إن أجابك. والمعنى ما أراه يجيبك. ووجه آخر وهو أن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر. وأما التكرير فالضابط فيه هو العرف فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا أردفه بالشرط. قيل: التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلاً بعواقب الأمور. والجواب أن أمر الدعوة والبعثة مبنيّ على الظواهر لا على الخفيات. وروي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] وأنا أشهد أنه لا يتذكر أو يخشى. وإنما سمى الوعظ بالتذكير لأن حسن هذا الدين مركوز في العقول {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30] فكأن هذا العلم كان حاصلاً في نفسه بالقوّة ثم زال عنها بالعوائق والغواشي، وعند بعض العقلاء أن النفوس قبل تعلقها بالأبدان عالمة بما لها أن تعلم إلا أنها نسيتها لاشتغالها بتدبير البدن، ومن هنا قال أفلاطون: لست أعلمكم ما كنتم تجهلون ولكن أذكركم ما كنتم تعلمون. ثم إنه تعالى بين أن المنتفع بالتذكير من هو فقال: {سيذكر من يخشى} قال في التفسير الكبير: إن الناس في أمر المعاد ثلاثة أقسام: القاطع بصحته، والمتردد فيه، والجأحد له. والفريقان الأوّلان ينتفعان بالتذكير والتنخويف، وكثير من المعاندين إنما يجحدون باللسان فقط، فتبين أن أكثر الخلق ينتفعون بالوعظ والمعرض نادر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فلهذا وجب تعميم التذكير.
قلت: هذا خلاف القرآن حيث قال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103] وقال: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17] وخلاف الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم في بعث النار «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» وخلاف المعقول فإنه لو سلم أن قسمين من الأقسام الثلاثة ينتفعان بالتذكير وينضم إليه من القسم الثالث بعض آخر فقد لا يلزم أن يكون الثاني أقل من المجموع المفروض لجواز اختلاف الأقسام، بل السبب في تعميم التذكير انتفاع المنتفعين به وهم أهل الخشية أعني العلماء بالله وإلزام الحجة لغيرهم.
والسين في {سيذكر} إما لمجرّد الإطماع فإن (سوف) من الله واجب، وإما لأن التذكير متراخ عن التذكير غالباً لتخلل زمان النظر والتأمل بينهما غالباً. قيل: نزلت الآية في عثمان بن عفان.
وقيل: في أبن أم مكتوم. ونزل في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة قوله: {ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى} أي السفلى من أطباق النار.
وعن الحسن: {النار الكبرى} نار جهنم والصغرى نار الدنيا. فالأشقى هو الكافر على الإطلاق، وذلك أن الكافر أشقى من الفاسق. ولا يلزم من تخصيص ذكر الكافر بدخول النار أن لا يدخلها الفاسق، وسبب تخصيص الكافر بالذكر أن الفاسق لم يتجنب التذكير بالكلية فيكون القرآن مسكوتاً عن الشقي الذي هو أهل الفسق، ويحتمل أن يكون الأشقى بمعنى الشقي كقوله: {وهو أهون عليه} [الروم: 27] أي هين فيدخل فيه الفاسق لأنه يجتنب بوجه من الوجوه. وقوله: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} قد مر تفسيره في (طه). ومعنى (ثم) تراخى الرتبة لأن هذا النوع من الحياة أفظع من نفس الدخول في النار. ثم ذكر وعد السعداء بعد وعيد الأشقياء. ومعنى {تزكى} تطهر من أدناس الشرك والمعاصي والعقائد الفاسدة {وذكر اسم ربه} بالتوحيد والإخلاص {فصلى} أي اشتغل بالخدمة والطاعة حتى يكون كاملاً بحسب قوّته النظرية والعملية بعد تخليته لوح الضمير عن النقوش الفاسدة.
وقال الزجاج: تزكى أي تكثر من التقوى وأصله من الزكاء النماء فيكون تفصيله قوله: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] إلى آخر الآيات. وفي أوّل البقرة إلى قوله: {هم المفلحون} [الآيات: 1، 5] وقال مقاتل: {تزكى} من الزكاة كتصدّق من الصدقة والمعنى: قد أفلح من تصدّق من ماله وذكر ربه بالتوحيد والصلاة {فصلى} له. وخصه قوم بصلاة العيد وصدقة الفطرة أي أفلح من تصدّق قبل خروجه إلى المصلى، وذكر اسم ربه في طريق المصلى أو عند تكبيرة الافتتاح {فصلى} العيد وهذا قول عكرمة وأبي العالية وابن سيرين وابن عمرو وعلى. وقد روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وضعف بأنه خلاف ما ورد في مواضع أخر من القرآن من تقديم الصلاة على الزكاة. والجواب إنما ورد هكذا لأن زكاة الفطر مقدّمة على صلاته. واعترض الثعلبي بأن السورة مكية بالإجماع ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب الواحدي بأنه لا يمتنع أن يقال لما كان في معلوم الله تعالى أن يكون ذلك أثنى على من فعل ذلك. استدل على بعض الفقهاء بالآية على وجوب تكبيرة الافتتاح، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بها على أن التكبيرة الأولى ليست من صلب الصلاة العطف الصلاة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه.
وأجيب بما روي عن ابن عباس أن المراد ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له وبأنه قد يقال (أكرمتني فزرتني) وبالعكس من غير فرق. وقد يزيف هذا الجواب الثاني بأنه خلاف الظاهر وبأن خصوصية المادة ملغاة فلا يلزم من عدم الفرق في المثال المضروب عدم الفرق فيما يتعلق به حكم شرعي. ثم وبخهم بقوله: {بل تؤثرون} إلى آخره. ثم بين أن ما في السورة من التوحيد والنبوّة والوعيد والوعد كانت ثابتة في صحف الأنبياء الأقدمين لأنها قواعد كلية لا تتغير بتغير الأزمان فهو كقوله: {وإنه لفي زبر الأوّلين} [الشعراء: 196] وقيل: المشار إليه بهذا هو قوله: {بل تؤثرون} الآية لأنه أقرب المذكورات، ولأن حاصل جميع الكتب السماوية الزجر عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
قال في الكشاف: روي عن أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله من كتاب؟ قال: «مائة وأربعة كتب منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» فتقدير الآية إن هذا لفي الصحف الأولى التي منها صحف إبراهيم وموسى.
قالوا: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه الله تعالى حسبي. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الأعلى:
مكية في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية.
قال النووي: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخبرات.
وهي تسع عشرة آية.
واثنتان وسبعون كلمة.
ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
{بسم الله} عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية {الرحمن} الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة {الرحيم} الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {سبح اسم ربك} فالأكثرون على أن المعنى: نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وقيل: عَظِّمْ ربك {الأعلى} والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحدا سواهـ.
وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي: معنى {سبح اسم ربك الأعلى} أي: نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية.
قال البغوي: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحدا لا يقول سبحان الله. وسبحان اسم ربنا إنما يقول: سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى: {سبح اسم ربك} اهـ.
وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {سبح} أي: صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل: سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: «سبحان ربي الأعلى».
وعن عقبة بن عامر أنه لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} (الواقعة). قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى}قال: «اجعلوها في سجودكم».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك.
وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل».
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟
فقال تعالى: {الذي خلق} أي: أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء {فسوى} أي: مخلوقه.
وقال الرازي: يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً: أحدها: اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين).
وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون). ثانيها: كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها: أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات.
وقال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه: أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية: هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
وقرأ {والذي قدر} الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي: وهما بمعنى واحد، أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك {فهدى} قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها.
وقال مقاتل والكلبي: في قوله تعالى: {فهدى} عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه).
أي: الذكر للأنثى.
وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له.
وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً.
وقال السدّي: قدر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال: إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل: {فهدى} أي: دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادراً، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء).
وقال موسى عليه السلام لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه).
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى: {والذي أخرج المرعى} أي: أنبت ما ترعاه الدواب.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى الكلأ الأخضر.
{فجعله} أي: بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته {غثاء} أي: جافاً هشيماً {أحوى} أي: أسود يابساً.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون {أحوى} حالاً من {المرعى} أي: أخرجه أحوى أي: أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه.
وقال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.
وقوله تعالى: {سنقرؤك فلا تنسى} بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى.
وقيل: نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى: {السبيلا} (الأحزاب).
أي: فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب: بأنّ هذا غير لازم؛ إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع.
قال الرزاي: وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل: أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً.
الثاني: أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً.
وفي المشيئة في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} أي: المَلِك الذي له الأمر كله وجوه:
أحدها: التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف).
فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها. ثانيها: قال الفرّاء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى: {ولئن شيءنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك} (الإسراء).
ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر).
مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.
ثالثها: أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه صلى الله عليه وسلم على التيقظ في جميع الأحوال.
رابعها: أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له: لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.
{إنه} أي: الذي مهما شاء كان {يعلم الجهر} أي: القول والفعل {وما يخفى} أي: منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في قلبك ونفسك.
وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
وقيل: {الجهر} ما حفظته من القرآن في صدرك، {وما يخفى} ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} عطف على {سنقرؤك}، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض.
قال الضحاك: واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة.
وقال ابن مسعود: اليسرى الجنة، أي: نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة، وقيل: اليسرى الطريقة اليسرى، وهي أعمال الخير والأمر في قوله تعالى: {فذكر} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فذكر بالقرآن {إن نفعت الذكرى} أي: الموعظة، وإن شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ** ولكن لا حياة لمن تنادي

ولأنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً، وكان صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جهداً في تذكيرهم، وحرصاً عليه فقيل: إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير.
وقيل: إن بمعنى إذ كقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران).
وقيل: بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل).
أي: البرد وقاله الفراء والنحاس.
وقيل: إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال.
ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه.
{سيذكر} أي: بوعد لا خلف فيه {من يخشى} أي: يخاف الله تعالى فهي كآية {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق).
وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم.
وقال ابن عباس: نزلت في ابن أمّ مكتوم.
وقيل: في عثمان بن عفان.
قال الماوردي: وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء.
وقال القشيري: المعنى: عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء..
فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب: بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.
تنبيه:
السين في قوله تعالى: {سيذكر} يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى واجب كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.
ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى: {ويتجنبها} أي: الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها {الأشقى}.
{الذي يصلى النار} وهو الكافر..
فإن قيل: {الأشقى} يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم؟
أجيب: بأنّ لفظ {الأشقى} من غير مشاركة كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًّا وأحسن مقيلاً} (الفرقان)، وقوله تعالى: {وهو أهون عليه} (الروم).
قال الرازي: الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، و{الأشقى} هو المعاند.
وقال الزمخشري: {الأشقى} هو الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.
واختلف في قوله تعالى: {الكبرى} أي: العظمى على وجوه:
أحدها: قال الحسن: هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها: أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها: أنّ {النار الكبرى} هي النار السفلى فهي نصيب الكفار، كما قال تعالى: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء)..
فإن قيل: قوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى} يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب: عن ذلك بوجهين:
أحدهما: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر).
وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما: أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.
تنبيه:
قوله تعالى: {ثم} للتراخي بين الرتب في الشدّة.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى: {قد أفلح} أي: فاز بكل مراد {من تزكى} أي: تطهر من الكفر بالإيمان؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله».
وقيل: تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.
{وذكر اسم ربه} أي: بقلبه ولسانه مكبراً {فصلى} أي: الصلوات الخمس.
قال الزمخشري: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها.
وقال قتادة: {تزكى}: عَمِلَ صالحاً.
وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر.
قال ابن سيرين: {قد أفلح من تزكى}، قال: خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد.
قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} (البلد).
والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم: «أحلت لي ساعة من نهار».
وقيل: المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال: إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال: أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه: {قد أفلح من تزكى} وفي المنافق {ويتجنبها الأشقى} وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر.
وقرأ {بل تؤثرون الحياة الدنيا} أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب، ومعناه على القراءة الأولى: بل تؤثرون الأشقون، وعلى القراءة الثانية: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرٌّ وفآنية اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.
{والآخرة}، أي: والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة {خير}، أي: من الدنيا {وأبقى} لأنها تشتمل على السعادة الجسمآنية، والروحآنية، ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك، ولأنّ الدنيا فآنية والأخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
وعن عمر: ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب.
وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا علي الآخرة؟
قلنا: لا.
قال: لأنّ الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
والإشارة في قوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى} إلى قوله: {قد أفلح من تزكى} إلى قوله: {خير وأبقى}، أي: هذا الكلام وارد في تلك الصحف.
وقيل: إلى ما في السورة كلها، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس.
وقال الضحاك: {إنّ هذا} القرآن {لفي الصحف الأولى} ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى: {صحف إبراهيم} وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر {وموسى} وختم به لأنّ الغالب على كتابة الأحكام والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وروي عن أبيّ بن كعب «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان».
وقيل: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه. عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه.
وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب {سبح اسم ربك الأعلى} و{قل يا أيها الكافرون} وفي الوتر ب {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس}».
وقرأ {الأعلى}، {فسوى}، {المرعى}، {أحوى}، {فلا تنسى}، {وما يخفى}، {من يخشى}، {الأشقى}، {ولا يحيى}، {من تزكى}، {فصلى}، {الدنيا}، {وأبقى}، {الأولى}، {وموسى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة.
وقرأ ورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل.
أمّا {الأعلى الذي}، {والأشقى الذي} إذا وقف عليهما فالإمالة، وإن وصلا فلا إمالة والباقون بالفتح.
وقرأ: {الذكرى}، الكبرى، أبو عمرو والكسائي بالإمالة محضة.
وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام». حديث موضوع. اهـ.